أحزنني توقف الصديق الزميل د. حسن مدن عن كتابة عموده اليومي في جريدة الخليج بقرار منه، ومن المؤكد أنه قرار مفاجئ لقرّاء صاحب «شيء ما»، العمود الذي واظب على كتابته قرابة الثلاثين عاماً، أي أن الرجل كتب نحو عشرة آلاف مقالة جعلت منه صديقاً للقارئ وواحداً من أفراد عائلته، وقد بنى له غرفة صغيرة في «الخليج» من حوالي 400 كلمة يومية شفافة، خفيفة على القلب، سهلة وعميقة في آن واحد، بعيداً عمّا يُسمّى «الفذلكة» أو التنظير أو الاستعراض الثقافي الذي يقع فيه بعض كتّاب الأعمدة الصحفية.
غرفة حسن مدن بالنسبة لي كانت زاويته «شيء ما»، كنت ضيفه في كل صباح، أقرأه بمتعة وبطء لكي لا تنتهي القراءة سريعاً، ويصادف أحياناً أن نكتب معاً وفي اليوم نفسه في موضوع واحد، وكانت الزاوية التي يتناول فيها موضوعه اليومي بالغة الذكاء والسرعة والخفة من دون جمل طويلة ومن دون مبالغات.
«شيء ما» في حدّ ذاته يبدو كل شيء. إنها فكرة حسن مدن. شيء ما غير مُعرّف وليس عنواناً كبيراً أو مغروراً. إنه ذاته الشيء البسيط العميق الذي يخصني ويخصّك ويخصّ الكاتب، فيجعل منا نحن الثلاثة أصدقاء.
عرفت حسن مدن كاتباً وإنساناً منذ أوائل التسعينات في الشارقة، وذات يوم كتب مادة لا أنساها أبداً عن «الشاحنات»، وسائقيها والمسافات التي يقطعونها في هذه المركبات الضخمة، لكنه دائماً يؤنسن كل ما يكتب، ويشحنه بطاقة شعرية دائماً من دون أن يستغرق في لغة الأدب على حساب لغة الصحافة اليومية التي يتطلبها فن كتابة العمود.
من إلهام حسن مدن كتبت ايضاً عمّا هو مُؤنسن في الأشياء، أي أن الكاتب الصحفي لا ينجو أحياناً من «عدوى» زميله الكاتب، وما من عيب أو نقصان في هذه العدوى..
«شيء ما» فيه كل شيء، لكن أشياء حسن مدن أشياء حية وليست جامدة أو ميّتة. إنه يكتب عن كتب قرأها، وتحديداً قراءاته في الشعر والقصة القصيرة والرواية. كتب في السينما وفي الغناء، كتب عن مدن زارها وأصدقاء مرّوا في شرايين حياته. كتب بلطف وأناقة في السياسة من دون أن يرتدي قبعة المحلل السياسي المتجهّم، كتب برقّة ونعومة في الحب والحنين، كتب عن الأمكنة وذاكرتها بلا تفلسف ولا استقواء ثقافي على قارئه الذي يشبهه، أو أنه هو حسن مدن يشبه قارئه.
غير أن حسن مدن ترك لي ولو على نحو شخصي باباً في غرفته تلك، فسوف أزوره قارئاً مدمناً عليه في كتابته الأسبوعية القادمة في «الخليج»، ومع أن طبيعة الكتابة الأسبوعية تختلف مهنياً وفنياً عن الكتابة اليومية، إلّا أن حسن مدن يظل هو هو حسن مدن، المثقف القارئ المتعدّد الينابيع والمرجعيات، الشعري في لغته الصحفية، والصحفي في لغته الأدبية الأنيقة مثله.
ميزة حسن مدن أنه يملأ غرفته. هو ليس كاتباً متخصصاً في نوع كتابي في حدّ ذاته، بل لديه دائماً أربعة أو خمسة أقلام، تبدأ مقالته بعذوبة، وتنتهي بعذوبة، لا يعرف التنكيت، ولا يستجدي الضحك، ينأى عن الهزل، عاشق كبير للكتابة.
[email protected]
0 تعليق