كتبنا مرة هنا ما معناه أن مفردة «الهجنة» قد تحمل شحنة من الدلالات السلبية، حين توضع كمقابل للأصالة، لكن الأمر لم يعد كذلك، فكل الثقافات اليوم هجينة، ولعلها كانت كذلك عبر التاريخ يوم كانت الحضارات تتفاعل وتغذي بعضها أخذاً وعطاء. الهجنة اليوم أصبحت سمة طاغية للزمن الذي نعيشه، حيث لم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة «صافية» أو «نقية» من المؤثرات الآتية إليها من خارجها في عالم بات مفتوحاً على بعضه.
نعود اليوم إلى الموضوع من وحي حديث عن الهجنة للكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس، أحد الوجوه البارزة في أدب أمريكا اللاتينية، والحاصل على جوائز كبيرة بينها جائزة «سرفانتس»، والحديث وارد ضمن حوار ضمّه كتاب «كاتب لا يستيقظ من الكتب» الذي أشرنا إليه قبل يومين، من إعداد وترجمة محمد أيت لعميم، رداً على سؤال حول الموضوع وصف بلاده المكسيك بأنها كانت دائماً بلداً هجيناً، فعشرة في المئة فقط من أهلها من أصل أبيض، ومثلهم عشرة في المئة فقط من أصل هندي، أما الآخرون فمهجنون، وبعد خمس وعشرين سنة لن يكون هناك بيض أو هنود كاملون.
لا يقطع الكاتب بأن ذلك أمر إيجابي أو سلبي، لكنه يؤكد أنه واقع، بل إن الأرض كلها تتجه إلى الهجانة، بل إن الهوية التي نصفها عادة بالوطنية أو القومية، تتأسس دائماً في الالتقاء والتبادل مع الآخرين، وهذا يصحّ على تاريخنا، فحين خرج الإسلام من جزيرة العرب إلى العراق والشام ومصر وفارس والهند وآسيا الوسطى والأندلس اكتسبت ثقافتنا العربية الإسلامية غنى وثراء بتفاعلها مع ثقافات البلدان التي وصلت إليها.
صاحبنا المكسيكي تحدث أيضاً عن الهجانة في الولايات المتحدة نفسها، الساعية لفرض نموذجها الخاص على العالم، ففي أمريكا اليوم يوجد خمسة وثلاثون مليوناً يتكلمون اللغة الإسبانية، فلوس أنجلوس هي المدينة الثالثة بعد مكسيكو وبيونس أيرس التي تتحدث اللغة الإسبانية، وتضجّ شوارعها بالكوريين واليابانيين. إنها بوصف الكاتب «بيزنطة القرن 21»، وبعد قرون قد لا تكون هناك أقوام خالصة.
على صلة بذلك نستعيد ما قاله الناقد الفرنسي - البلغاري ترفيتان تودوروف، حول أن كل الثقافات خلاسية، وبرأيه، فإن ثقافة أي بلد هي مجموعة معقدة ومنسوجة من ثقافات خاصة، هي تلك الثقافات التي يتعرف فيها الفرد إلى نفسه: ثقافات المناطق، المهن، الأعمار، الجنس، الأوضاع الاجتماعية والتوجهات الروحية.
إلى ذلك، فإن كل ثقافة يسمها الاتصال مع جيرانها، فأصل ثقافة ما يكون دوماً حاضراً في الثقافات السابقة، في التلاقي بين العديد من الثقافات ذات الأبعاد متناهية الصغر، والثقافات متحوّلة، متغيرة.
الأمم الميتة وحدها من تكف ثقافاتها عن التطور الخلاق، أخذاً وعطاءً.
0 تعليق