حقوق الشعب في منظومة الحقوق - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عبد الإله بلقزيز
تقع حقوق الشعوب موقعاً رئيساً في منظومة الحقوق التي تَلْحظها فلسفة الحق الحديثة، إذِ الاعترافُ بحقِّ شعبٍ مّا هو اللّحظة العليا في قيم السياسة، على نحو ما أقرّتْ ذلك نظريّتُها الحديثة، بعد أن دُرِج على الاعتراف بحقّ الفرد والمواطن، ابتداء، ثم بحق طبقات المجتمع وفئاته المنتجة تالياً. قد نعثر على بذور الاعتراف بحقوق الشّعوب في نصّ المعاهدة الموقّعة في ويستفاليا (1648)، التي سلّمت بحدود الأوطان القائمة آنئذ (في أوروبا تحديداً)، وشدّدت على سياداتها الوطنيّة وعلى وجوب صوْنها وعدم انتهاكها، ولكن التّسليم الفعلي بمشروعيّة حقوق الشّعوب لم يُفصح عن نفسه، رسميّاً، سوى في القرن العشرين ومن خارج مجتمعات الغرب.
إنّ مطالب عدّة، من جنس هذه الحقوق، من قبيل التحرّر، وحقّ تقرير المصير، والاستقلال الوطنيّ، والسّيادة...إلخ لم تدخل إلى المجال التّداوليّ السّياسيّ إلاّ في وقتٍ متأخّر يعود إلى نهايات القرن الثّامن عشر وبدايات التّاسع عشر (في أمريكا اللاّتينيّة خاصّةً)، لكنّ التّسليم بها - بما هي مطالب مشروعة - لم يبدأ، عمليّاً، إلاّ في العقدين الأوّلين من القرن العشرين. مردُّ هذا التأخّر في تظهير فكرة حقّ الشّعب - مقارنةً بفكرتيْن وقع التّبكيرُ بهما: هما حقّ الفرد وحقّ الطّبقة - إلا أنّ الفكرة هذه اقترنت بحقبة الاستعمار الغربيّ للشّعوب، وبميلاد حركات التّحرّر الوطنيّ في المستعمرات (بلدان الجنوب)، وهذه لحظة متأخّرة في تاريخ الغرب.
وما كان الغرب الكولونياليّ يعترف بمشروعيّة هذه المطالب التي تدور على فكرة حقوق الشّعوب، لأنّها - بكلّ بساطة - كانت تُجدِّف ضدّ مصلحته في إبقاء سيطرته على المستعمرات وتخدم مصالح الشّعوب المستباحة أوطانها. ولم يسلّم بمشروعيّتها إلاّ مُرغماً بعد أن حَمَلَتْه نضالات التحرّر الوطنيّ على الاعتراف بالأمر الواقع.
من الواضح أنّ حقوق الشّعوب ليست مطلباً يحمله فريقٌ من المجتمع الوطنيّ ضدّ آخر، كما يمكن أن تكون عليه حالُ مطالب أخرى مثل الحرية، والمساواة، والديمقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة وسواها ممّا يمكن أن تنفرد جهة سياسيّة اجتماعيّة داخليّة بحمْله، والدّفاع عنه، وإنّما هي من نوع المَطالب التي لا تتبدّى إلاّ في صورة حقوق يطلبها المجتمع لنفسه من قوّةٍ خارجيّة تهتضمها، أو تصادرها، أو لا تعترف بها، أو تنال منها، وهذه القوّة الخارجيّة قد تتجسّد في استعمارٍ عسكريّ جاثم على الأرض، أو في قوّةٍ اقتصاديّة وسياسيّة مهيمنة، أو في مجتمعٍ آخر في الجوار ينازع المجتمعَ الأوّل في حقوقه.
ولأنّ حقوق الشّعب تُسْتَحصَل، دائماً، من جهةٍ خارجيّة فإنّ السُّعاة إلى تحصيلها من المجتمع يكونون، حُكْماً، أكثر عدداً من السّعاة إلى تحصيل مطالب أدنى، فرديّة أو فئويّة، لذلك «يحتاز» النّضالُ الذي يدور على فكرة حقّ الشّعب من موارد القوّة ما لا «يحتازُه» نضالٌ اجتماعيّ آخر أدنى منه مساحة، وهذا ممّا يكون له كبيرُ الأثرِ في تعظيم قوّة العمل الوطنيّ مثلما هو ملحوظ في تجارب العمل الوطنيّ في العالم.
الحقوق الوطنيّة (حقوق الشّعب) حقوق جامعة بالضّرورة، إذْ هي تصهر قوى المجتمع والشّعب كافّة في كيانيّة عليا واحدة تجتمع على مشتَرَكٍ جامعٍ ليس موضوعَ منازَعةٍ بينها. وليست هذه حال حقوق الفرد والطّبقة، إذْ هي ليست، دائماً وفي الظّروف كافّة، موطنَ إجماعٍ بلِ الغالبُ عليها أن تكون موضوع نزاعٍ حادٍّ أو أقلّ حدّة: بين الفرد والمجتمع، بينه والدّولة، بين طبقةٍ منتِجَة (عاملة) وطبقةٍ مالكة، بين طبقات محكومة وأخرى حاكمة... ثمّ داخل كلٍّ من هذه الطّبقات...إلخ.
وقد يستفحل النّزاع على تلك الحقوق بين القوى الخائضة فيه فيبلغ، أحياناً، مبالغَ غيرَ مرغوبة إنِ استفحل أمرُه وتولَّدتْ منه أزمات عصيّة على الاستيعاب. نعم، قد لا تكون حقوقُ الأفراد والطّبقات سبباً للانقسام الدّاخليّ دائماً، ولكنّ الذي لا شكّ يُداخِلنا فيه أنّ حقوق الشّعب تظلّ، باستمرار، ديناميّةً من ديناميّات التّوحيد الوطنيّ. على أنّه قبل هذا كلِّه، وبعد هذا كلِّه، هناك قاعدة موضوعيّة حاكمة تُقاس بها العلاقة بين هذه الأنواع والمراتب الثلاثة من الحقوق، داخل كلّ مجتمع، ومقتضاها توقُّفُ إمكانِ بعضِها على تحقُّقِ بعضها الآخر.
السّؤال الجدير بالتّفكير فيه هو: لماذا يقع تغييب هذه الحقوق العليا - على مكانتها ومركزيّتها في كلّ اجتماعٍ سياسي - مقابل تظهير حقوقٍ أخرى، خاصّةً حقوق الفرد، وإحاطتِها بالكثير من التّقديس في نطاق خطاب حقوق الإنسان السّائد، اليوم، في عصر العولمة؟ إنّ تغييبَها لا يكاد أن يعادلَه في الحدّة والاشتباه سوى تغييبُ حقوق الطّبقات الاجتماعيّة المسحوقة أو الصغرى المحرومة من وسائل الإنتاج!
يقع التّغييب ذاك من طرف الغرب وخطاباته السّياسيّة، وذلك لأسبابٍ عدّة: منها أنّ هذه الحقوقَ حقُوقُ شعوبٍ أخرى من خارج الغرب وبالتّالي، فهي أدنى في المرتبة - عنده - من حقوق الشّعوب الغربيّة التي تحقّقت منذ زمنٍ بعيد. ومنها أنّ تحصيل هذه الحقوق، اليوم، يرادف المسّ بمصالح قوى الغرب الكبرى التي لا تعترف - في حقبة العولمة - باستقلالٍ أو سيادة. ثمّ لأنّ الحقوق عند الغربيّين هي، بالتّعريف، حقوق الأفراد، منظوراً إليها في مفهومها اللّيبراليّ، لا حقوق الطّبقات الكادحة ولا الشّعوب المغلوبة على أمرها.
[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق