زحمة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بُعد النظر، تعبير قد يصبح نادراً ولا يعرفه كل أبناء الأجيال القادمة، إذا استمرّت الحياة تمشي صعوداً بكل ضوضائها وزحامها وما تسببه للإنسان من توتر وإرهاق وضيق في التنفس، فبُعد النظر لا يقتصر على رمزيته بمعنى إجادة التفكير بما سيأتي والمستقبل والتمعّن في الأمور.. بل يعني أيضاً ما تراه العين من حولها، ومدى قدرتها على التحليق بالنظر بعيداً، فترتاح وتعكس هذه الراحة على نفس وفكر الناظر، وللأسف فإن الأفق يزداد ضيقاً، والعين تعجز عن التحليق بعيداً، والآتي سيكون أعظم.
تعيش البشرية في زمن التلوث البصري، لم تعد العشوائية محصورة بالمباني المكدسة في مدن تغيب عنها جماليات الهندسة المعمارية، مشكّلة سبباً إضافياً لما يعيشه الإنسان من توتر وزحام، يطارده في كل مكان، بل العشوائية تحيط البشر وتلاحقهم كيفما التفتوا.
زحمة محطات تلفزيونية، وزحمة منصات، وزحمة برامج ومسلسلات من كل لون، وبمختلف اللغات واللهجات، وزحمة وسائل تواصل اجتماعي، وزحمة ألعاب إلكترونية، وزحمة صفحات لا يمكن حصرها، تتوالى بشكل تلقائي، لتبث وتنشر المئات من المعلومات والأخبار والأفكار والفيديوهات والصور.. ولك أن تصدق منها ما تشاء، وتغربل وتنقل أو تعيد نشر كيفما تشاء.. كل هذا الكم من الضوضاء والأضواء التي تراها عينك كل يوم وكل لحظة، تنعكس إرهاقاً على بصرك، وإرهاقاً لأعصابك، وتشويشاً لأفكارك، لأن كل شيء يزيد عن حده، ينقلب لضده، فكثرة الاختيارات والمعلومات بقدر ما تفيد الإنسان ترهقه وتشتته وتربكه.
نحن نشأنا في مدن كانت وما تزال تنعم بشيء من الارتياح، لم تكتم أنفاسها زحمة المباني كما هي اليوم، ولا كثرة السيارات ولوحات الإعلانات الضخمة، ولم نعرف في طفولتنا شاشة غير التلفزيون والسينما، حتى بعد وصول الكمبيوتر كان ضخماً وثابتاً لا نحمله معنا كيفما تحركنا، حتى الهواتف كانت ثابتة، وهاتف لكل بيت لا لكل فرد، وكان الأهل يخشون من إصابتنا بضعف النظر لكثرة الدراسة وقراءة الكتب، في حين صارت عيون أبنائنا معلقة على كل أنواع الشاشات، الهاتف واللابتوب والآيباد والألعاب الإلكترونية واللوحات الإعلانية، بجانب التلفزيون والسينما طبعاً.. وسائل تحجب النظر إلى البعيد، بل قل تحد النظر وتحد التفكير، وتحد مساحة الرؤية بوضوح والتنفس بهدوء.. تلوث النظر منتشر تماماً مثل تلوث البيئة، لا ينجو منه إلا من يمنح نفسه مساحة للراحة بلا تحديق في الهاتف وكلّ الإلكترونيات، تلك الراحة تنعكس عليه راحة في النَفس، وتمنحه الهدوء وفرصة التفكير بشكل سليم.
[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق