تتفق كل المواقف الصادرة عن الأطراف ذات الصلة بالمفاوضات الجارية حول غزة، على أن الاتفاق على إبرام هدنة واعدة أصبح أقرب من أي وقت مضى، وربما سيعيش الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي أياماً استثنائية باستعادة عشرات الرهائن وآلاف الأسرى، وأن الحرب التي ارتَكَبت فيها إسرائيل أبشع الجرائم، وكَسَرت كل الخطوط الحمراء، تقترب من لحظة النهاية التي ستكون مؤلمة وحُبلى بالمفاجآت.
هناك عوامل كثيرة تجعل من الاتفاق على وقف لإطلاق النار الخيار الوحيد المتبقي، بعدما فشلت القوة الإسرائيلية الغاشمة في استعادة أي من الرهائن حياً، وبعد أن تكبدت تل أبيب خسائر فادحة في أمنها واقتصادها وعديد جنودها، رغم أن الوجه الآخر على الجانب الفلسطيني كان شديد القسوة ورهيباً، فقطاع غزة لم يعد كما كان، وأفقده هذا العدوان نحو 10 بالمئة من سكانه، ضحايا ومصابين ومفقودين، وبات كل الفلسطينيين هناك نازحين ومشردين، بعد أن دمرت آلة الحرب الإسرائيلية ثلاثة أرباع المربعات السكنية والمدارس والمستشفيات وكل البنى التحتية. ومع كل ذلك يُحسب للفلسطينيين صمودهم في القطاع المدمر ومقاومتهم حرب الإبادة بالتشبث بأرضهم، رفضاً لمخططات التهجير والترحيل، كما كان يطمح المتطرفون في تل أبيب، وهذا الموقف الشعبي سيظل عنواناً فلسطينياً يمكن البناء عليه في تقرير المصير حتى إقامة الدولة المستقلة، كما تعرفها القرارات والمواثيق الدولية.
اللاعب الأمريكي، الذي ظل يتقمص دورين، داعماً لإسرائيل ثم وسيطاً، كان موقفه حاسماً في هذه المرحلة، إذ اتفقت الإدارة المنتهية ولايتها برئاسة جو بايدن، والمنتخبة بزعامة العائد دونالد ترامب، على ضرورة التوصل إلى هدنة قبل العشرين من يناير/كانون الثاني الجاري، ويبدو أن هذا سيحدث بفعل الضغط والتهديد اللذين يمارسهما ترامب منذ حملته الانتخابية، كما يبدو أيضاً أن للإدارة الأمريكية الجديدة رؤيتها وحساباتها، فقد جاءت متوعدة بإنهاء كل الحروب، وخصوصاً في أوكرانيا والشرق الأوسط، وإن كانت الأهداف واضحة في الأولى، فهي غامضة وغير مفهومة في الثانية، فترامب، ككل الإدارات الأمريكية السابقة، ليس من داعمي الحق الفلسطيني، ولا يؤمن بحل الدولتين، ويدعم التوسع الإسرائيلي، وربما هذه المواقف ستتضح منذ الأيام الأولى لولايته، وعندها ستتبين غاياته من تسريع عودة الرهائن ووقف الحرب على غزة.
المشكلة التي تخيم على غزة المدمرة في الوقت الحالي تتعلق بما يسمى «اليوم التالي»، وما يتطلبه من سيناريوهات تتعلق بحكم القطاع والسيطرة عليه، ومن ثم مشاريع إعادة الإعمار، وأكثر ما يخشاه الفلسطينيون في الفترة المقبلة أن تتعثر وعود الإعمار والإغاثة بحجة عدم وجود إدارة أو جهة موثوق بها للتنسيق. ويخشى أن يطول هذا الوضع المفترض، فتستكمل تداعياته الإنسانية تدمير ما تبقى من عناصر للحياة في غزة. ومع ذلك يظل وقف العدوان الإسرائيلي مَطلباً مُلحَّاً وعاجلاً، رغم أن الحقائق المطموسة ستنكشف يوماً، وستحمل الكثير من المفاجآت الصادمة، خصوصاً بشأن الإجرام الإسرائيلي، والعدد الحقيقي للضحايا الفلسطينيين، كما ستظهر مآسٍ إنسانية لم تروَ بعد. فهذه الحرب غير المسبوقة، ستظل فصلاً أسود في تاريخ المنطقة، ووقفها قد لا يعني أن هذه الدوامة المأساوية قد انتهت، إلا إذا استوعبت جميع الأطراف دروس غزة القاسية، وسلكت طرقاً أخرى لاستعادة التهدئة، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه كاملة غير منقوصة.
[email protected]
0 تعليق