يحيى زكي
يذهب آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة» إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي نجحت في ترميز التافهين، أي جعلت من شخصيات مغمورة ولا يوجد لديها ما تقدمه رموزاً. والمتابع لتلك المواقع سيجد أنها لم تشتغل على الصعود بأشخاص وحسب، بحيث جعلت منهم نخبة جديدة ستحل قريباً مكان النخب التقليدية، لكنها نجحت أيضاً في ترميز السطحية بصفة عامة.
اشتغلت تلك المواقع على كل ما يتعلق بالبشر ويحيط بهم، بداية من ترميز المشاعر في علامات «إيموجي» وباتت بمنزلة الشفرات التي يعرفها الجميع، لم تعد اللغة ذات وزن هنا، فالحب والغضب والكراهية والسلام.. الخ، وغيرها العشرات من المشاعر باتت مؤطرة في أشكال موحية، ونسينا اللغة وما أبدعناه فيها على مدى آلاف السنين.
من القيم التي نجحت هذه المواقع في الصعود بها أيضاً، قيمة النجاح في تحصيل المال، لم يعد النجاح مثل الماضي يرتبط بالعمل الجاد والدؤوب والتخطيط والتفكير، ولم يعد يرتبط بمكانة أدبية أو علمية يصل إليها الإنسان، لكنه بات يرتبط بالصورة وتقديم محتوى ما لتحقيق أموال طائلة في فترة زمنية قصيرة جداً، هنا اشتغلت تلك المواقع على ترميز المال، وإن كانت هذه المواقع نتيجة مبشرة للرأسمالية التكنولوجية، إلا أنها تختلف عن مسار الرأسمالية الأساسي، فإذا كان هذا المسار يعتمد على التنافس وعمل الإنسان بشتى السبل لتجاوز العقبات التي تعترض طريقه، فإن تلك المواقع لا تعرف هذا المشوار الطويل، هي مجرد جهد ضئيل يقدم من خلال محتوى سطحي لتحقيق الثروة.
نجحت تلك المواقع في ترميز السطحية، فمضمون المحتوى الذي تقدمه، ومهما يكن يتسم بالجدية للوهلة الأولى، إلا أنه لا يقارن بأي وسيلة تواصل سابقة: مسموعة أم مرئية أم مقروءة، المحتوى هنا خفيف وسريع، ولا يثبت في العقل، ولا يشكل ذاكرة خاصة به، كما أن الإشكالية الكبرى في القائمين على تقديم هذا المحتوى تتمثل في صعودهم الصاروخي، فبعدما كان قادة الرأي في السابق يحتاجون إلى سنوات لبناء علاقة صحية مع الجمهور، فهؤلاء لا يحتاجون إلا لساعات لكي يشكلوا جمهورهم، هذا فضلاً عن طرائق عمل تلك المواقع في الأساس، والذي من الصعب الإمساك بها أو توصيفها.
ففي السابق كانت الفكرة التي يطرحها المثقف أو قائد الرأي تحتاج إلى فترات طويلة لكي تنتشر، أما في مواقع التواصل باتت دورة حياة الأفكار والقيم والسلوكيات شبيهة بدورة حياة الفراشة، تولد وتحلق وتموت في فترة قصيرة جداً ولا تترك أي أثر.
أما طبيعة المحتوى المقدم في تلك المواقع فهو في أحسن أحواله لا يختلف كثيراً عن كتب تطوير الذات، تلك المكتوبة بخفة وعلى عجل لتداعب الرغبات في النجاح السريع أو الثراء الصاروخي.
لقد رمّزت تلك المواقع كل ما هو تافه، وليس أدل على ذلك من أن تأثيرها السلبي انتقل إلى أهم حقلين لا يمكن لأية ثقافة جادة أن تتحرك من دونهما وأعني النقد والفلسفة، واللذين باتا معرضين للخطر بفعل انتشار وتضخم تلك المواقع.
0 تعليق