عبد الإله بلقزيز
إذا كان العنف محايثاً للسّياسة لا سبيل لديها إلى مجانبته، تَعَفُّفاً منها أو غنًى عنه، فما كل عنفٍ سياسيّ يُحْسَب في عداد العنف الضّروريّ الذي لا تستقيم وظائف السّياسة إلاّ به. ثمّة أنواعٌ مختلفة من العنف السّياسيّ والاجتماعيّ لا تنمو به السّياسة وتزدهر وتستقر، بمقدار ما تتدهور به حالُها وتتدهور معها أحوال مَن تتناوَلُهم أفعالُها وأحكامُها من النّاس.
ومثلُ هذا العنف يكون الغالبُ عليه أنّه يغلو في طلب الشّدّة وطَلَبِ النّوافلِ من القسوة ظنّاً من صاحبه أنّ التّبريحَ به والإفاضةَ فيه مَجْلَبَة للامتثال والخضوع، وقد يكون الغالب عليه تسخيرُه قصد تحصيل مصلحةٍ خاصّةٍ أو فئويّة لا يشارك المجتمعُ والدّولة في الاستفادة من عوائدها، كما قد يكون الوازع شيئاً آخر من هذا الجنس. الجامع بين هذه الصُّور من العنف أنّها ليست دائرةً على فكرة الحاجة إلى استتباب الأمن والاستقرار في المجتمع، لذلك هي لا تنتمي إلى ضروريّات السّياسة ولا مشروعيّة لها، بالتّالي، من زاوية المصالح العامّة.
كان هدف الدّولة، دائماً، فرْضَ النّظام والاستقرار والسِّلم في المجتمع. ولقد تعزّزت هذه الأهداف، على نحوٍ لا سابق له، مع ميلاد الدّولة الوطنيّة الحديثة. ليس من إمكانٍ - في منظور هذه الدّولة كما من منظور الفكر السّياسيّ الحديث - أن ينتظم أمر الاجتماع السّياسيّ وتتوطّد علاقاتُه الدّاخليّة وروابطُه، وأوّلُها المواطَنة، وأن تترسّخ السّلمُ المدنيّة فيه مع وجود حالات صراعيّة مَبْناها على العنف المتبادَل بين النّاس. لا قيامة للدّولة وبالتّالي، للمجتمع إلاّ إذا هي أنهت حالة العنف المتبادل ذاك لأنّها، بهذا وحده، تفرض سلطانها وتُؤمِّن أسباب تكريس هيبتها ومرجعيّتها بوصفها جسماً سياسيّاً يمثّل الكلّ الاجتماعيّ ومصلحتَه العامّة في التّمتّع بالسِّلم والاستقرار.
لا غرابة، إذاً، في أن تكون أمُّ هواجس الفكر السّياسيّ الحديث هي مسألةَ الأمن الاجتماعيّ، وأن يتنزّل هذا منزلة الأسّ الأساس في عمل الدّولة، بل أهمّ مسوِّغات وجود الدّولة، ولقد كانت فلسفةُ هوبس السّياسيّة أوّلَ تدشينٍ فكري وتنظيري لمركزيّة الأمن والسِّلم المدنيّة في أيّ اجتماعٍ سياسيّ، وهو الأمر الذي أتى نظامُ الدّولة الوطنيّة يَلْحظُه في هندسته الاجتماعيّة ويشدّد عليه في منظومته القانونيّة.
قد يكون الباعث على سنّ القوانين وفرض احترام أحكامها التّسليمَ بحاكميّة الدّولة وسلطانِها السّياسيّ في المجتمع. وهذا صحيح من غير شكّ، ولكن مَن ذا الذي يسكنُه ولو قليل من الشّكّ في أنّه من طريق هذه القوانين وأحكامِها الجزائيّة يصير في حكم الإمكان، فعلاً، كبح جِماح العنف وحماية المجتمع من شروره وآثاره الضّارّة؟ ليس هذا بالقليل حقّاً، من منظور مصلحة كلٍّ من الدّولة والمجتمع، إذ من غير استئصال العنف أو - أقلاًّ- الحدِّ منه إلى أبعدِ حدّ، لا قيام لأيٍّ منهما. ثمّ إنّ تجربة الدّولة الحديثة نفسها أقامت دليلاً على حاجة كلِّ تنمية لها وفيها وكلِّ تَقَدُّمٍ إلى استتباب السِّلم المدنيّة والاستقرار. وعلى ذلك، فإنّ توسُّلَ سلطةِ القانون لمنع العدوان وتجريم العنف ليس مسْلكاً تنتحله النّخبةُ الحاكمة لتقمع به معارضيها، بل هو حاجةٌ حيويّة للدّولة وللمجتمع على السّواء، إذِ القانون - في فلسفة السّياسة - تعبيرٌ عن الإرادة العامّة للأمّة من حيث هي مصدر السّلطة.
في القوانين قدْرٌ مّا من العنف لولاهُ ما أمكنها أن تفرض أحكامها. مع ذلك، قد لا يكفي القانون وحده لمنع العنف غير القانونيّ فيُحْتَاج، حينها، إلى الردّ على العنف بالعنف: على العنف غيرِ القانونيّ بالعنف القانونيّ، أي، عمليّاً، على توسُّل أدوات العنف لإنفاذ أحكامِ قوانين مصروفة لكبْح العنف ومنْعِه. غير أنّ عنف السّلطة، في هذه الحال، لا يشبه في شيءٍ ذلك العنف الذي تردّ عليه، متوسِّلةً الشّرطةَ والسّجون والعقوبات الماديّة، كما لا يشبه عنف سلطة البطش والطّغيان والشّطط في استخدام أدوات القهر على نحوٍ من القمع والتّغوُّل في التّسلُّط قد ينقلب ضدّها. هذا العنف مختلف، إنّه من النّوع الذي يسمّيه ماكس ڤيبر ب«العنف المشروع»، والذي يشدّد على حاجة الدّولة إلى احتكاره، أي إلى مركزة استخدامه في نطاقها المؤسّسيّ الحصريّ ومنع سواها من قوى المجتمع من التّسربُل بأدواته.
مَأْتى المشروعيّة في هذا العنف الدّولتيّ من أمريْن: من كونه عنفاً قانونيّاً، ومن حيث هو مسخَّر للدّفاع عن المصلحة العامّة. فأمّا أنّه قانونيّ فلكونه يندرج في سياق آليةٍ عمليّة غرضُها تطبيق القانون وما تقتضيه أحكامُه. ويُلْجأ إلى هذا العنف في الأحوال التي تُنْتَهك فيها القوانين عبر العدوان على حقوق المجتمع والدّولة، ويكتسب - لهذا السّبب - صفةَ العنف المرغوب فيه من المجتمع بحسبانه عنفاً ينوب عن المجتمع برمّته ويعبّر عن حقٍّ عامّ.
وأمّا أنّه يدافع عن مصلحةٍ عامّة فذلك متقرِّرٌ من مجرّد اكتسابه صفةً قانونيّة ودولتيّة، بيان ذلك أنّ أنواع العنف الأخرى المذمومةَ، وغيرَ القانونيّة، التي يأتيها أفرادٌ أو جماعات اجتماعيّة، تدور على مصالح فرديّة أو فئويّة تدخل جميعُها في نطاق المصلحة الخاصّة، فيما عنفُ الدّولة وحده مصروفٌ لخدمة المصلحة العامّة، لأنّ مبْنى الدّولة، ابتداء، قائمٌ على المصلحة العامّة، ولأنّ حماية السِّلم المدنيّة والاستقرار الاجتماعيّ والسّياسيّ في قلب المصلحة العامّة.
abdilkeziz29@ gmail.com
0 تعليق