د علي محمد فخرو
لم يعد خافياً أن كثيراً من أقطار الوطن العربي قد أصبحت تعاني وجود أخطار سياسية واقتصادية وأمنية مستفحلة تهدد استقرارها إن لم يكن وجودها. وشيئاً فشيئاً أصبحت تلك الأخطار القُطرية تكوّن مجتمعة خطراً عربياً قومياً واحداً متشابكاً ووجودياً بكل ما يحمل من مآسٍ وانتكاسات وأخطار مستقبلية للوطن العربي كله.
ومما يضاعف من حجم وانتشار وجديّة تلك الأخطار المحلية والمشتركة ضلوع بعض القوى الخارجية في خلقها، وفي خطوات استمراريتها، وفي كثرة وتنوع الأقنعة التي تخفيها.
وما عادت الصورة تهدد الواقع العربي فقط، وإنما تهدد أيضاً الأفكار والمبادئ والقيم والالتزامات، وبالتالي أوجدت فراغات في المشهد العربي برمّته.
مواجهة المشهد المحلي يمكن تركها للقوى المحلية لتتعامل مع خصوصياته ومحدداته الكثيرة، لكن ما نعتقد أنه يجب أن يعني الجميع، لأنه سيؤثر على الجميع طال الزمن أو قصر، هو المشهد العربي العام. ذلك أن أي فشل في مواجهته من قبل الجهات المسؤولة عنه سيجعل المواجهات الوطنية المحلية بالغة الصعوبة والتكلفة، إن لم تكن من المستحيلات. بالنسبة لتلك المواجهة الجمعية يجب أن يكون الحديث صريحاً إلى أبعد الحدود، إذ إن خطر غيابها أو كثرة تعثّرها أو ضعف جهات القيام بها سيكون كارثياً بكل معنى الكلمة. وحتى لا نضيع في المتاهات والعموميات فإننا نعتقد أن كثيراً من اللوم يقع على عاتق المؤسسات الثلاثة التالية: مؤسسة مؤتمرات القمة العربية، والجامعة العربية، ومنظمة التعاون العربي الإسلامي. ذلك أنها جميعاً تعاملت مع تلك الأخطار الجمعية المشتركة بأساليب التكتيك المحدود المؤقت بدلاً من التعامل بأساليب الاستراتيجية الشاملة البعيدة المدى.
وللتوضيح فإن الاستراتيجية تعني مجموعة من القرارات لتحديد الأهداف، خصوصاً الطويلة المدى، وطرق مسارها لتحقيقها، بينما التكتيك هو خطوات فرعية ملموسة موجهة نحو أهداف أصغر خلال إطار زمني أقصر. وهي في الواقع تعاريف حداثية لكلمات قديمة يونانية تشير إلى القيادة العسكرية العليا التي تتخذ القرارات الكبرى الاستراتيجية من جهة، والقيادات الدنيا التي تنفّذ من خلال خطوات تكتيكية من جهة أخرى.
وفي الواقع العربي، وخصوصاً خلال الثلاثين سنة الماضية واجهت تلك المؤسسات الثلاثة فواجع الأوضاع العربية المتنامية من خلال قرارات تكتيكية مجزّأة فشلت فشلاً ذريعاً في علاج أي من تلك الفواجع، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى العربي القومي المشترك. فلا الأسباب عولجت ولا مصادر الأخطار، وخصوصاً الخارجية منها، جوبهت. والنتيجة التي حصدناها لمثل تلك التعاملات التكتيكية المحدودة المؤقتة هي مشهد الجحيم الذي نراه أمامنا اليوم في أجزاء كثيرة من وطننا العربي.
من هنا نرى أنه قد أضحى من الضروري أن تبادر تلك المؤسسات الثلاثة إلى تكوين مجموعة من المفكرين السياسيين والناشطين من ذوي الخبرة في الحياة العربية العامة، سواء الحزبية أو النقابية أو المهنية أو الحقوقية، ليضعوا استراتيجية أو استراتيجيات شاملة ليستفيد منها قادة تلك المؤسسات في تعاملهم مع الأوضاع الحالية ومع ما قد يستجد في المستقبل القريب، خصوصاً بعد أن أصبحت لقوى الخارج الاستعمارية أجنداتها لاستمرار الأوضاع العربية الحالية، ومن ثم لانتقالها إلى مشاريع تمزّق وتضعف الوجود العربي، وتُعلي وتمكّن تلك القوى الخارجية من قيادة المنطقة العربية برمّتها، والهيمنة على ثرواتها وكل محاولاتها النهضوية المستقبلية.
وسيكتشف القائمون على المؤسسات العربية الثلاثة من خلال تفاصيل مقدمة الاستراتيجية وتحليل مواجهاتها المستقبلية أن الأخطار التي تواجهها هذه الأمة، حكومات وشعوب، تقترب بالفعل من مستوى الكوارث التاريخية الكبرى التي قضت على وجود إمبراطوريات وشعوب كانت ملء السمع والبصر.
إننا نعتقد أنه ما زالت هناك إمكانيات كبيرة في الجسمين العربي والإسلامي، إن أُحسن تنظيمها وتجييشها وتنسيقها في تيار مشترك فستكون قادرة على حمل المسؤوليات والأهداف والأفعال التي ستقترحها الاستراتيجية المشتركة. لكن المؤامرات كثيرة وحركة الزمن ليست في صالح سياسة التفرّج والانتظار التكتيكية الحالية.
ليس الهدف هو إضافة وثيقة نظرية جديدة إلى الوثائق الكثيرة السابقة، وإنما أن تكون وثيقة الاستراتيجية المقترحة طريقاً إلى ممارسة الفعل المتناسق المتضامن في الواقعين العربي والإسلامي.
0 تعليق