الحسين الزاوي
جرى الحديث خلال الولاية الأولى من حكم دونالد ترامب لأمريكا، عمّا أسماه البعض «الفلسفة الترامبية» في سياق سعي النخب الثقافية في الغرب لفهم منطق السلطة الذي يحكم توجهاته وتوجهات القاعدة الشعبية العريضة التي تدعمه، وقد قيل في حينها إن «فلسفته» قائمة على النزعة النفعية الأمريكية في أكثر صورها ارتباطاً بالسلوكيات الشعبوية بناءً على شعارات حمائية وانعزالية مثل «أمريكا أولاً»، كما قيل إنها «فلسفة» تدّعي أنه «ليس هناك وقائع، ولكن فقط تأويلات»، وهي رؤية لا تكتفي بإلغاء الوقائع، ولكنها تسعى إلى خلق ظروف قسرية تعتمد على العنف اللفظي والابتزاز، تسمح بميلاد وقائع مغايرة تكون بمثابة تأويل مضاعف ومشوّه للوقائع الأصلية.
ويمكن القول: إن هذه «الفلسفة» القائمة على التجاوزات القصوى، قد تشهد بعض التعديلات خلال الولاية الجديدة لفريق ترامب الحكومي الذي يجري تشكيله في المرحلة الراهنة بناءً على ما تراكم لدى ترامب من خبرات ومن فهم لكيفيات وآليات التعامل مع مؤسسات الدولة العميقة في واشنطن، واعتماداً أيضاً على فهم أوضح لطبيعة التوازنات الجيوسياسية في العالم، وبالتالي فإن مقاربة ترامب للأحداث والوقائع ستعتمد خارجياً على محاربة العولمة بشقيها الاقتصادي والثقافي لحرمان الصين من مواصلة تطوير اقتصادها من خلال توظيف المنظومة الاقتصادية الدولية المفتوحة، وستستند داخلياً على دعم ممارسة اقتصادية حرة قائمة على نزعة رأسمالية تلغي القسم الأكبر من القيود التي تفرضها المؤسسات البيروقراطية على «حرية المنافسة».
وعلاوة على ذلك، فإن قناعات ترامب الأيديولوجية وتوجهاته الشعبوية التي كان لها دور حاسم في إعادة انتخابه لولاية ثانية، ستجعله أكثر محافظة من ناحية تعاطيه مع منظومة القيم داخل المجتمع الأمريكي، حيث يُنتظر منه أن يعمل على تقليص هامش الحريات الفردية بالنسبة لانتشار التصورات المتعلقة بثقافة الجسد، من منطلق أن ترامب ومعه كل قاعدته الشعبية تؤمن بالقيم التقليدية للأسرة وترفض مجمل التحولات «الجندرية» وكل ما يرتبط بالهوية الجنسية التي بدأت تنتشر في الغرب، والتي جعلت الصراع الانتخابي بين ترامب وهاريس يتحوّل في جانب منه على الأقل، إلى صراع بين النزعتين الذكورية والنسوية.
أما على المستوى الدبلوماسي، فإن ولاية ترامب الثانية، وإن كان من المتوقع أن تكون في مجملها استمراراً لرؤيته السياسية على المستوى الدولي، فإن هناك عناصر جديدة ستمارس تأثيرها على أسلوب مقاربته للأحداث العالمية، إذا يُنتظر أن يكون لصهره ميخائيل بولص المنحدر من أصول لبنانية، دور لا يستهان به في تشكيل رؤيته للعديد من القضايا وعلى رأسها ملف الشرق الأوسط، وبخاصة وأن بولص بدأ يحظى بحضور لافت منذ زواجه بالسيدة تيفاني ترامب سنة 2022، ومن المنتظر أيضاً أن يلعب ماركو روبيو المقترح لمنصب وزير الخارجية دوراً حاسماً في رسم سياسات واشنطن سواء تعلق الأمر بأوروبا أو الصين أو بالشرق الاوسط، كما أن اقتراح تولسي غابارد، المنشقة عن الحزب الديمقراطي، لمنصب الاستخبارات قد يكون له تأثير إيجابي على العلاقات مع روسيا، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن صهره الآخر جاريد كوشنير الذي لعب دوراً مؤثراً في توجيه مواقف ترامب بشأن الشرق الأوسط خلال الولاية الأولى والتي كان من أبرزها الاعتراف «بسيادة» إسرائيل على القدس الشرقية والغربية وعلى الجولان السوري المحتل، وإلى جانب هؤلاء يُنتظر أن يكون لشخصيات أخرى معروفة بنزعتها البراغماتية ومؤثرة في محيط الرئيس ترامب، دور كبير في رسم معالم السياسة الأمريكية خلال الأربع سنوات المقبلة.
ونستطيع أن نتوقع اعتماداً على ما يذهب إليه المتابعون، أن سياسة ترامب الخارجية ستكون أكثر حنكة في التعامل مع التقلبات الجيوسياسية خلال سنوات ولايته الثانية بناءً على خبرته السابقة، ولكن مع حفاظه على الثوابت الكبرى لسياسته سواء تعلق الأمر بزيادة الدعم لإسرائيل أو بمحاصرة الصين اقتصادياً لمنعها من الحصول على الريادة التكنولوجية، وتؤشّر التعيينات التي قام بها، إلى أنه سينتهج سياسة أكثر شدة تجاه إيران بموازاة سعي مبعوثه الخاص للشرق الأوسط إلى إبرام مزيد من الصفقات الاقتصادية مع الدول العربية في محاولة منه لتحجيم الدور الصيني في المنطقة، وفضلاً عن ذلك فإن سياسة ترامب ستكون انعكاساً لشخصيته المزاجية، التي يغلب عليها الازدواجية والصراحة الجارحة والتهجم على الخصوم والمبادرة لإطلاق التصريحات المخادعة لتشتيت انتباه الآخرين.
ويذهب المراقبون عطفاً على ما تقدم، إلى أن ولاية ترامب الجديدة ستطرح أسئلة جدية بشأن مستقبل السياسة الأمريكية بعد تراجع الكثير من الثوابت التي أضرّ اضمحلالها بمصداقية واشنطن على المستوى الدولي بسبب التغيّرات الفجائية في المواقف الأمريكية الناجمة عن تداول السلطة في البيت الأبيض، لا سيما إذا ما استثنينا الدعم غير المشروط لإسرائيل، وهناك أسئلة أخرى ستطرح بخصوص مستقبل «الترامبية» بعد ترامب بسبب تدني مستوى النخب السياسية في أمريكا، كما يرى المراقبون أيضاً أن ترامب، سيظل أكثر راحة، كما هو معتاد، في الأقوال أكثر من ارتياحه في الأفعال، فقد سبق أن تحدّث في ولايته الأولى كثيراً ولم يقدِّم سوى أشياء متواضعة.
0 تعليق